لو استلفت من الرّوائي النيجيري «تشنوا أتشيبي» عنوان روايته (أشياء تتداعى)، لكان ذلك أوفق عنوان لحالنا اليوم، فكلّ الأحلام تداعت، وذهبت أدراج الرّياح، وكلّ القضايا ماعتْ وتماهتْ في اللاشيء، وبات «بقاء الحال كما هو عليه» أقصى الأمنيات التي نرجوها، اتقاءً لمزيد من السُّقوط المدوّي، والانهيار الذي ينسف كلّ احتمالات المواجهة والصّمود.
ما أيسر أن نقرأ المشهد بوضوح في مرآة قضيّتنا المركزية. لنعود بالذاكرة إلى تلك الأماني الخُلب التي رفعنا بها سقف الاحتمالات منذ الاحتلال الصهيوني، بـ«كنس العدو ورميه في البحر»، وظللنا نطعم هذا الحلم خطبًا كالرعود الصواعق، ونقاتل بالحناجر والقصائد الماحقة المدمرة، ومع كلّ خطبة، وعلى أثر كل قصيدة تزيد الخيبة، ويتّسع الفتق على الراتق، وتقضم دولة الكيان الغاصب الأراضي من أطرافها زاحفة نحو العمق.. والمنافي تتسع، والمخيمات تكبر، والمأساة تأخذ أشكالاً من الأسى لا حصر لها، وإذا نحن نقلّص من حجم الأحلام، ونكتفي من الغنيمة بالإياب، ونفاوض على حدود ما بعد النكسة. وليت ذلك سلم لنا، فـ«العدو» قرأنا جيدًا، وتسلّل إلينا من أخطائنا، و«غبائنا» أيضًا. كان حلم الصلاة في القدس مطلبا مقدساً، والآن نصرخ «لا تجعلوها عاصمة لإسرائيل، يكفيكم تل أبيب».
عجبًا إذن أن يكبر الحزن.. وتصغر الأحلام كلّ الدنيا على خلاف ذلك؛ إلا نحن، أحزانهم تبدو في البداية كبيرة ولها مذاق الأسى الفاتك، ثمّ تمضي لتداوي جراحها بمرهم النسيان، لتصبح مجرد ذكريات فقط، وتمضي لتربي أحلامها البواذخ في بيدر المتاح من الجهود الممكنات.. نحن فقط من يكبر حزننا كل يوم وتصغر أحلامنا حدّ التلاشي والضمور.. ضمرت القضية الفلسطينية، بعد أن بدّدها بنوها تبديد «الحمقى» و«المغفلين»، وباتوا يطالبون بدولة في القطاع وأخرى في غزة، مفتاح العبور لها بيد العدو، وأكسجين تنفسها من رئتيه، دولة ينهض في وجهها جدار فاصل، وتغلق عليها «المعابر» ولا تسلم لها أرض، ولا يطمئن إليها بحر.. دولة، أو قلْ سلطة كابدت لتأخذ مقعدًا في محفل الأمم المتحدة، وهي نفسها ما عادت أممًا متحدة.. فثمة حدث هائل، وتغيير دراماتيكي يزحزح الثوابت القديمة، ويمضي باتجاه تغيير قواعد «اللعبة»، والسذج وحدهم من يحتفظون بـ«المفاتيح القديمة» وكل الأقفال قد تغيّرت.
كلّ أرض الوطن الكبير جراح تنزف، بعضها من صنيع خناجرنا، ومماحكاتنا التي أهلكتنا، وكأنّما نحن موكلون بأن نعيد مأساة «البسوس» مع كلّ «ناقة» تغادر القطيع.. تلك جراح، وجراح أُخَر من غبن «الآخر» تعيد التفاتنا إلى قول الصادق عليه أفضل الصلاة والسلام «توشك أن تتداعى عليكم الأمم» وقد تداعت.
ضاعت العراق بددا، الحلم «الفارسي» غوّر الجراح فيها، وطعن خاصرتها بمدية «الفتنة الطائفية»، وهيّأ كلّ الظروف لنمو النّبت الشيطاني «داعش»، حيث بشاعة الأفعال تفوق الخيال، وحيث الغلو والتطرّف يمسكان بخناق عقيدتنا، ويرسمان صورة شائهة للرسالة المحمدية الخاتمة، رسالة الأمن والسلام، أصبحت اليوم محطّ الريبة، وعنوان الإرهاب الذي تأذّى منه العالم أجمع. وذات الحال فتحت له لبنان مسرحها، فاستعجم «حسن الشاطر»، وفتح للملالي أرض الأرز والياسمين وفيروز، لتغرق في الرايات الصفر و«العمائم السود»، فما عاد وجه لبنان يغري، وما عادت العصافير تغشى بيادرها في طمأنينة الباحث عن «عش» و«وكن»..
في سوريا اليوم، عبث الطّاغية بها ونكّل بشعبه في أبشع جريمة عرفها التاريخ الحديث، دمار لا يوصف، وموت مجاني قبيح، وأرامل وثكالى وأحزان مرسومة في عيون الأطفال، وذعر في عيون اليفّع، وشتات ضاقت عنه الآفاق، المنافي تنتظر الهاربين، فإن سلموا من سطوة البحر وعنفوان الموج، فلا مكان لهم إلا الملاجئ، وانتظار «التفضّل» عليهم بـ«حقّ اللّجوء».. وقد ذابت عن العيون معاني الكبرياء، وانطمست في النُّفوس معالم العزّة، وانمحى عن الوجوه ماء الحياة.. وكلّ ما بقي أشلاء لبشر يبحثون عن الموت بأكثر من رغبتهم في الحياة.. والعالم إمّا صامت متفرج أو ثرثار يتحرك في مساحة التفاوض لـ«حل سلمي» على أنقاض الجراح المفتوحة..
ليبيا فيها فرّخ العنف وباض، وولدت الحرب جيوبًا، ووجد «غراب الشوم» ضالته، فعلّق لافتة «الدواعش» فيها، وباتت مسرحًا للعبث والفوضى، ومتجرًا رائج البضاعة لتجار السلاح، وبائعي الموت الزؤام..
هل بدأ السودان يتعافى من جراحه في دارفور، ربّما، ولكنّ نصفه الذي ذهب في الجنوب ما زال مشتعلاً، وشبح المجاعة يطلّ من بين الهياكل العظمية التي تسير وتنتظر حتفها.
هل تكفي هذه الصورة المأساوية والتي ضيعت فيها قطر المسافات والمساحات والأحلام لندرك موضع أحلامنا التي كنا نربّيها ونحرسها قديمًا، فإذا هي اليوم أصغر ما تكون الأحلام، وأقل ما تكون الأمنيات.. مريد البرغوث صوته يرافقني وهو ينشد:
كلّما كسَّر البرق بلّورَه في الأعالى
اشتهيتُ أقلَّ قليل الحياة
فما لاحَ لي غيرُ موتي
بلادًا أُسمّيك أم غولة يا بلادي؟
فهلا تركت لنا فسحة
كي نطيل البكاء قليلاً على الميتين
وهلا تركت لنا فسحة
كى نُهيِّئ فوجًا جديدا
مِن الذّاهبين إليكِ بأكفانِهم راكضينْ
ما أيسر أن نقرأ المشهد بوضوح في مرآة قضيّتنا المركزية. لنعود بالذاكرة إلى تلك الأماني الخُلب التي رفعنا بها سقف الاحتمالات منذ الاحتلال الصهيوني، بـ«كنس العدو ورميه في البحر»، وظللنا نطعم هذا الحلم خطبًا كالرعود الصواعق، ونقاتل بالحناجر والقصائد الماحقة المدمرة، ومع كلّ خطبة، وعلى أثر كل قصيدة تزيد الخيبة، ويتّسع الفتق على الراتق، وتقضم دولة الكيان الغاصب الأراضي من أطرافها زاحفة نحو العمق.. والمنافي تتسع، والمخيمات تكبر، والمأساة تأخذ أشكالاً من الأسى لا حصر لها، وإذا نحن نقلّص من حجم الأحلام، ونكتفي من الغنيمة بالإياب، ونفاوض على حدود ما بعد النكسة. وليت ذلك سلم لنا، فـ«العدو» قرأنا جيدًا، وتسلّل إلينا من أخطائنا، و«غبائنا» أيضًا. كان حلم الصلاة في القدس مطلبا مقدساً، والآن نصرخ «لا تجعلوها عاصمة لإسرائيل، يكفيكم تل أبيب».
عجبًا إذن أن يكبر الحزن.. وتصغر الأحلام كلّ الدنيا على خلاف ذلك؛ إلا نحن، أحزانهم تبدو في البداية كبيرة ولها مذاق الأسى الفاتك، ثمّ تمضي لتداوي جراحها بمرهم النسيان، لتصبح مجرد ذكريات فقط، وتمضي لتربي أحلامها البواذخ في بيدر المتاح من الجهود الممكنات.. نحن فقط من يكبر حزننا كل يوم وتصغر أحلامنا حدّ التلاشي والضمور.. ضمرت القضية الفلسطينية، بعد أن بدّدها بنوها تبديد «الحمقى» و«المغفلين»، وباتوا يطالبون بدولة في القطاع وأخرى في غزة، مفتاح العبور لها بيد العدو، وأكسجين تنفسها من رئتيه، دولة ينهض في وجهها جدار فاصل، وتغلق عليها «المعابر» ولا تسلم لها أرض، ولا يطمئن إليها بحر.. دولة، أو قلْ سلطة كابدت لتأخذ مقعدًا في محفل الأمم المتحدة، وهي نفسها ما عادت أممًا متحدة.. فثمة حدث هائل، وتغيير دراماتيكي يزحزح الثوابت القديمة، ويمضي باتجاه تغيير قواعد «اللعبة»، والسذج وحدهم من يحتفظون بـ«المفاتيح القديمة» وكل الأقفال قد تغيّرت.
كلّ أرض الوطن الكبير جراح تنزف، بعضها من صنيع خناجرنا، ومماحكاتنا التي أهلكتنا، وكأنّما نحن موكلون بأن نعيد مأساة «البسوس» مع كلّ «ناقة» تغادر القطيع.. تلك جراح، وجراح أُخَر من غبن «الآخر» تعيد التفاتنا إلى قول الصادق عليه أفضل الصلاة والسلام «توشك أن تتداعى عليكم الأمم» وقد تداعت.
ضاعت العراق بددا، الحلم «الفارسي» غوّر الجراح فيها، وطعن خاصرتها بمدية «الفتنة الطائفية»، وهيّأ كلّ الظروف لنمو النّبت الشيطاني «داعش»، حيث بشاعة الأفعال تفوق الخيال، وحيث الغلو والتطرّف يمسكان بخناق عقيدتنا، ويرسمان صورة شائهة للرسالة المحمدية الخاتمة، رسالة الأمن والسلام، أصبحت اليوم محطّ الريبة، وعنوان الإرهاب الذي تأذّى منه العالم أجمع. وذات الحال فتحت له لبنان مسرحها، فاستعجم «حسن الشاطر»، وفتح للملالي أرض الأرز والياسمين وفيروز، لتغرق في الرايات الصفر و«العمائم السود»، فما عاد وجه لبنان يغري، وما عادت العصافير تغشى بيادرها في طمأنينة الباحث عن «عش» و«وكن»..
في سوريا اليوم، عبث الطّاغية بها ونكّل بشعبه في أبشع جريمة عرفها التاريخ الحديث، دمار لا يوصف، وموت مجاني قبيح، وأرامل وثكالى وأحزان مرسومة في عيون الأطفال، وذعر في عيون اليفّع، وشتات ضاقت عنه الآفاق، المنافي تنتظر الهاربين، فإن سلموا من سطوة البحر وعنفوان الموج، فلا مكان لهم إلا الملاجئ، وانتظار «التفضّل» عليهم بـ«حقّ اللّجوء».. وقد ذابت عن العيون معاني الكبرياء، وانطمست في النُّفوس معالم العزّة، وانمحى عن الوجوه ماء الحياة.. وكلّ ما بقي أشلاء لبشر يبحثون عن الموت بأكثر من رغبتهم في الحياة.. والعالم إمّا صامت متفرج أو ثرثار يتحرك في مساحة التفاوض لـ«حل سلمي» على أنقاض الجراح المفتوحة..
ليبيا فيها فرّخ العنف وباض، وولدت الحرب جيوبًا، ووجد «غراب الشوم» ضالته، فعلّق لافتة «الدواعش» فيها، وباتت مسرحًا للعبث والفوضى، ومتجرًا رائج البضاعة لتجار السلاح، وبائعي الموت الزؤام..
هل بدأ السودان يتعافى من جراحه في دارفور، ربّما، ولكنّ نصفه الذي ذهب في الجنوب ما زال مشتعلاً، وشبح المجاعة يطلّ من بين الهياكل العظمية التي تسير وتنتظر حتفها.
هل تكفي هذه الصورة المأساوية والتي ضيعت فيها قطر المسافات والمساحات والأحلام لندرك موضع أحلامنا التي كنا نربّيها ونحرسها قديمًا، فإذا هي اليوم أصغر ما تكون الأحلام، وأقل ما تكون الأمنيات.. مريد البرغوث صوته يرافقني وهو ينشد:
كلّما كسَّر البرق بلّورَه في الأعالى
اشتهيتُ أقلَّ قليل الحياة
فما لاحَ لي غيرُ موتي
بلادًا أُسمّيك أم غولة يا بلادي؟
فهلا تركت لنا فسحة
كي نطيل البكاء قليلاً على الميتين
وهلا تركت لنا فسحة
كى نُهيِّئ فوجًا جديدا
مِن الذّاهبين إليكِ بأكفانِهم راكضينْ